الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
واختير طريق التنكير في أصنام ووصفُه بأنها لهم، أي القوم دون طريق الإضافة ليتوسل بالتنكير إلى إرادة تحقير الأصنام وأنها مجهولة، لأن التنكير يستلزم خفاء المعرفة.وإنما وصفت الأصنام بأنها لهم ولم يُقتصر على قوله: {أصنام} قال ابن عرفة التونسي: عادتهم يجيبون بأنه زيادة تشنيع بهم وتنبيه على جهلهم وغوايتهم في أنهم يعبدون ما هو ملك لهم فيجعلون مملوكهم إلاههم.وفُصلت جملة {قالوا}، فلم تعطف بالفاء: لأنها لما كانت افتتاح محاور، وكان شأن المحاورة أن تكون جملها مفصولة شاع فصلها، ولو عطفت بالفاء لجاز أيضًا.ونداؤهم موسى وهو معهم مستعمل في طلب الإصغاء لما يقولونه، إظهارًا لرغبتهم فيما سيطلبون، وسموا الصنم إلاهًا لجهلهم فهم يحْسبون أن اتخاذ الصنم يُجدي صاحبه، كما لو كان إلاهُه معَه، وهذا يدل على أن بني إسرائيل قد انخلعوا في مدة إقامتهم بمصر عن عقيدة التوحيد وحنيفية إبراهيم ويعقوب التي وصى بها في قوله: {فلا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون} [البقرة: 132] لأنهم لما كانوا في حال ذل واستعباد ذهب علمهم وتاريخ مجدهم واندمجوا في ديانة الغالبين لهم فلم تبق لهم ميزة تميزهم إلاّ أنهم خدمة وعبيد.والتشبيه في قوله: {كما لَهم آلهة} أرادوا به حَض موسى على إجابة سؤالهم، وابتهاجًا بما رأوا من حال القوم الذين حَلّوا بين ظهرانيهم وكفَى بالأمة خسّةَ عقول أن تعُد القبيح حسنًا، وأن تتخذ المظاهر المزيّنة قدوة لها، وأن تنخلع عن كمالها في اتباع نقائص غيرها.و{ما} يجوز أن تكون صلة وتوكيدًا كافة عمل حرف التشبيه، ولذلك صار كاف التشبيه داخلًا على جملة لا على مفرد، وهي جملة من خبر ومبتدأ، ويجوز أن تكون ما مصدرية غير زمانية، والجملة بعدها في تأويل مصدر، والتقدير كوجود آلهة لهم، وإن كان الغالب أن ما المصدرية لا تدخل إلاّ على الفعل نحو قوله تعالى: {ودوا ما عنَتّم} [آل عمران: 118] فيتعين تقدير فعل يتعلق به المجرور في قوله: {لهم} أو يكتفَى بالاستقرار الذي يقتضيه وقوع الخبر جازا ومجرورًا، كقول نهْشَل بن جرير التميمي:
وفصلت جملة {قال إنكم قوم تجهلون} لوقوعها في جواب المحاورة، أي: أجاب موسى كلامهم، وكان جوابه بعنف وغلظة بقوله: {إنكم قوم تجهلون} لأن ذلك هو المناسب لحالهم.والجهل: انتفاء العلم أو تصور الشيء على خلاف حقيقته، وتقدم في قوله تعالى: {للذين يعملون السوء بجهالة} في سورة النساء (17)، والمراد جهلهم بمفاسد عبادة الأصنام، وكانَ وصف موسى إياهم بالجهالة مؤكدًا لما دلت عليه الجملة الاسمية من كون الجهالة صفة ثابتة فيهم وراسخة من نفوسهم، ولولا ذلك لكان لهم في باديء النظر زاجر عن مثل هذا السؤال، فالخبر مستعمل في معنييه: الصريح والكناية، مكنى به عن التعجب من فداحة جهلهم.وفي الإتيان بلفظ {قوم} وجعل ما هو مقصود بالإخبار وصفًا لقوم، تنبيه على أن وصفهم بالجهالة كالمتحقق المعلوم الداخل في تقويم قوميتهم، وفي الحكم بالجهالة على القوم كلهم تأكيد للتعجب من حال جهالتهم وعمومها فيهم بحيث لا يوجد فيهم من يشذ عن هذا الوصف مع كثرتهم، ولأجل هذه الغرابة أكد الحكم بإن لأن شأنه أن يتردد في ثبوته السامعُ. اهـ. .قال الشعراوي: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ}.لقد قالوا ذلك وهم مازالوا مغمورين في نعم الله إنجاء من عدو، واستخلافًا في الأرض، ومع ذلك بمجرد أن طلعوا إلى البر ورأوا جماعة يعبدون صنمًا طالبوا موسى أن يجعل لهم صنمًا يعبدونه. لقد حسدوا من يجهلون قيمة الإِيمان ويعكفون على عبادة الأصنام، ويعكف تعني أن يقيم إقامة لازمة، ومنه الاعتكاف في المسجد، أي الانقطاع عن حركة الحياة خارج المسجد إلى عبادة الله في بيته. {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ...} [الأعراف: 138].وهذا القول من قوم موسى هو قمة الغباء، كأن الإِله بالنسبة لهم مجهول على رغم أنه قد أسبغ عليهم من النعم الكثير، وهذه أول خيبة، وهم يريدون أن يكون الإِله مجعولًا برغم أن الإِله بكمالاته وطلاقة قدرته جاعل، ولكن عقيلتهم لم تستوعب النعم الغامرة وقلوبهم مغلقة لم يعمها الإِيمان. وقالوا: اجعل لنا إلهًا! وأرادوا أن ينحت لهم الأصنام، وقد يقول واحد منهم: رأس الإِله كبيرة قليلًا صغّرها بعض الشيء، وأنفه غير مستقيمة فلنعدلها بالإِزميل، وقولهم: {اجعل لَّنَا إلها}. وهذا ما يجعلنا نفهم أن عقولهم لم تستوعب حقيقة الإِيمان؛ لذلك يقول لهم موسى: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}.ولم يقل لهم: لا تعلمون بل قال: {تجهلون} لأن هناك فارقًا بين عدم العلم بالشيء، وبين الجهل بالشيء، فعدم العلم يعني أن الذهن قد يكون خاليًا من أي قضية، أما الجهل فهو يعني أن تعلم مناقضًا للقضية، إذن فهناك قضية يعتقدها الجاهل ولكنها غير واقعية. أما الذي لا يعلم فليس في باله قضية، وحين تأتي له القضية يقتنع بها، ولا يحتاج ذلك إلى عملية عقلية واحدة مثل الأمي مثلًا الذي لا يعلم، لأن ذهنه خال من قضية، أما الذي يعلم قضية مخالفة فهو يحتاج من الرسول إلى عمليتين عقليتين: الأولى أن يخرج ما في نفسه من قضية الجهل، والثانية أن يعطي له القضية الجديدة، إن الذي يخرج ما في نفسه من قضية الجهل، والثانية أن يعطي له القضية الجديدة، إن الذي يرهق العالم هم الجهلاء لا الأميون، لأن الأمي حين تعطي له المعلومة فليس عنده ما يناقضها. لكن الجاهل عنده ما يناقضها ويخالف الواقع. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: قال ابن عادل:قوله: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ} كقوله: {فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} [البقرة: 50] من كونِ الباء يجوز أنْ تكون للتَّعدية، وأن تكون للحاليَّة، كقوله: [الوافر]وقد تقدَّم.وجاوز بمعنى: جاز، ف فاعل بمعنى فَعَل.وقرأ الحسنُ، وإبراهيم، وأبو رجاء ويعقوب {جَوَّزْنَا} بالتِّشْديدِ وهو أيضًا بمعنى فَعَلَ المجردِ كقَدَرَ وقَدَّر.قوله: {يَعْكُفُونَ} صفة لـ {قَوْم}.وقرأ الأخوان {يَعْكِفُونَ} بكسر الكاف، وتروى عن ابي عمرو أيضًا، والباقون بالضمِّ، وهما لغتان في المضارع كـ {يَعْرشُون}.وقد تقدَّم معنى العكوف واشتقاقه في البقرة.قال قتادة: كان أولئك القومُ من لَخْم، وكانُوا نُزولًا بالرِّقَّةِ.وقال ابنُ جريج: كانت تلك الأصْنَام تماثيل بقر، وذلك أول شأن قصة العِجْلِ.قوله: {كمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}.الكافُ في محلِّ نصب صفة بـ {إلهًا}، أي: إلهًا مماثلاُ لإلههم.وفي ما ثلاثةُ أوجه:أحدها: موصولةٌ حرفية، أي: تتأوَّلُ بمصدرِ، وعلى هذا فصلتُهَا محذوفة، وإذا حُذِفَتْ صلة ما المصدريَّة، فلابد من إبقاء معمولِ صلتها، كقولهم: لا أكلِّمكَ ما أنَّ حِرَاءَ مَكَانَهُ، أي: ما ثَبَتَ أنَّ حِرَاءَ مكانه، وكذا هنا تقديره: كما ثبت لهم آلهة، ف {آلهة} فاعل ثبت المقدر، أي: كما أنَّ أنَّ المفتوحةَ في المثالِ المتقدم فاعل ثبت المقدر.وقال أبُو البقاءِ- هذا الوجه- ليس بجيد والجملة بعدها صلةٌ لها، وحسَّن لك أنَّ الظرف مقدَّرٌ بالفعل.فصل:قال شهابُ الدِّينِ: كلامُهُ على ظاهِره ليس بجيِّد؛ لأنَّ ما المصدريةَ لا تُوصَلُ بالجملة الاسمية على المشهور، وعلى رأي مَنْ يُجَوِّز ذلك، فيشترط فيها غَالِبًا أن تُفْهِم الوقت كقوله: [الكامل] ولكنَّ المراد أنَّ الجارَّ مقدَّرُ بالفعل، وحينئذٍ تؤولُ إلى جملةٍ فعليّة، أي: كما استقرَّ لهم آلهةٌ.الثاني: أن تكون ما كافَّةً لكاف التَّشبيه عن العمل، فإنَّهَا حرفُ جر، وهذا كما تُكَفُّ رُبَّ فيليها الجملُ الاسميَّة، والفعليَّة، ولكن ليس ذلك على سبيل الوجوب، بل يجوزُ في الكافِ وفي رُبَّ مع ما الزَّائدة بعدهما وجهان: العَمَلُ والإهمالُ، وعلى ذلك قول الشَّاعر: [الطويل] وقول الآخر: [الخفيف] وروي برفع النَّاس، والجامل وجرِّهما، هذا إذا أمكن الإعمالُ، إمَّا إذَا لم يمكن تَعَيَّنَ أن تكونَ كافَّةً كهذه الآية، إذا قيل: بأن ما زائدة.الثالثُ: أن تكون ما بمعنى الذي، ولَهُمْ صلتها، وفيه حينئذٍ ضميرٌ مرفوعٌ مستتر، وآلهة بدلٌ من ذلك الضَّمير، والتَّقديرُ: كالذي استقَرَّ هو لهم آلهة.وقال أبُو البقاءِ- في هذا الوجه-: والعَائِدُ محذوفٌ، وآلهة بدلٌ منه، تقديره: كالَّذِي هُوَ لهُم وتَسْميتُهُ هذا حَذْفًا تَسَامحٌ، لأنَّ ضمائرَ الرفع إذا كانت فاعلةٌ لا تُوسف بالحذف، بل بالاستتار. اهـ. باختصار. .تفسير الآية رقم (139): قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما استفيد من كلامه لهم غاية الإنكار عليهم، علل هذا الإنكار بقوله: {إن هؤلاء} أي القوم {متبر ما هم فيه} أي مكسر مفتت مهلك على وجه المبالغة، وإذا فسد الظرف فسد المظروف، وإليه الإشارة بجعل {هؤلاء} اسمًا لإن، وإيلائه خبر الجمله الواقعه خبرًا مقدمًا على مبتدئه.ولما كان الشيء قد يهلك في الدنيا أو في الاخرة- وهو حق، أعملهم بأن هذا الهلاك إنما هو الهلاك عند الله أعلم من كونه في الدنيا أو في الآخرة لبطلان ما هم فيه، فقال معبرًا بالاسمية إشارة إلى أنه الآن كذلك، وإن رئي بخلافه: {وباطل} أي مضمحل زائل {ما كانوا} أي جبلة وطبعًا {يعملون} أي مواظبين عليه من الأصنام والعكوف وجميع أعمالهم لأجله، لا وزن لشيء منها أصلًا ولا اعتبار، و- فيه إشارة إلى أن العبادة لا تنبغي إلا للباقي الذي لا يجوز عليه التغير، فإذا كان كذلك كان العمل له أيضًا ثابتًا باقيًا لا يجوز عليه البطلان، وفي تعقيبها لتدمير آل فرعون إشارة إلى موجب ذلك، وأن كل من كان على مثل حالهم من عبادة غير الله كانت عاقبته الدمار. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الفخر: ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال: {إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ}.قال الليث: التبار الهلاك.يقال: تبر الشيء يتبر تبارًا والتتبير الإهلاك، ومنه قوله تعالى: {تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} ويقال للذهب المنكسر المتفتت: التبر فقوله: {مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} أي مهلك مدمر، وقوله: {وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قيل: البطلان عدم الشيء، إما بعدم ذاته أو بعدم فائدته ومقصوده، والمراد من بطلان عملهم: أنه لا يعود عليهم من ذلك العمل نفع ولا دفع ضرر، وتحقيق القول في هذا الباب أن المقصود من العبادة أن تصير المواظبة على تلك الأعمال سببًا لاستحكام ذكر الله تعالى في القلب حتى تصير تلك الروح سعيدة بحصول تلك المعرفة فيها.فإذا اشتغل الإنسان بعبادة غير الله تعالى، تعلق قلبه بغير الله ويصير ذلك التعلق سببًا لإعراض القلب عن ذكر الله تعالى؛ وإذا ظهر هذا التحقيق ظهر أن الاشتغال بعبادة غير الله متبر وباطل، وضائع وسعى في تحصيل ضد هذا الشيء ونقيضه، لأنا بينا أن المقصود من العبادة رسوخ معرفة الله تعالى في القلب، والاشتغال بعبادة غير الله يزيل معرفة الله عن القلب، فكان هذا ضدًا للغرض ونقيضًا للمطلوب والله أعلم. اهـ.
|